عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم موضوعٌ جليل ؛ فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام كان قمةً سامقهً تتقاصر دونها القمم ، وكانت مكانته رفيعةً تتوارى معها المكانة والمنزلة مهما علت وسمت .
وكما نرى النجم مضيئاً مشعّاً ، وله جماله وبهائه ، فإذا أشرقت الشمس لم يعد له أثر ، فكذلك كل عظمةٍ ، وكل قدرٍ ، وكل مكانةٍ لأحدٍ من الخلق هي دون مقام وعظمة ومكانة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام .
ولا شك أنه شرفٌ عظيم لنا - متحدثاً وسامعين - أن نطرق مثل هذا الموضوع نشنّف به آذاننا ، ونسعد به نفوسنا ، ونشرح به صدورنا ؛ فإن ذكر الله - جل وعلا - وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة حق ومقام وقدر ذات الله سبحانه وتعالى ، والوقوف على مكانة وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ مما يحيي القلوب ، وينشّط النفوس ، ويقوّي العزائم .
وإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبةٌ عظيمةٌ من شعب الإيمان ، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة ، بل منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة ؛ وذلك لأنه ليس كل محبٍ معظماً ، فأنت ترى الوالد يحب ولده ، ولكنه حب تكريمٍ وليس حب تعظيم ، وحب حنوٍ ورحمة وليس حب إجلالٍ وتقديرٍ وتبجيل .
فلذلك إذا جمع العبد المؤمن تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم المحبة التي أسلفنا القول فيها ، ثم توجّه وكملها - أو أسسها - وبناها على قاعدة تعظيم وتوقير المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه يكون قد نال حظاً عظيماً ، وشرفاً كبيراً ، وأتى على أمرٍ من الأمور ، التي هي من أصول إيمانه وقواعد إسلامه ، ومنطلقات التزامه ، ولذلك ينبغي لنا أن نفرح ، وأن نسعد ، وأن نفخر بما وفقنا الله - جل وعلا - إليه من الحديث في مثل هذا الموضوع .
وقد نادانا الله - جل وعلا - وذكّرنا في سياق آياته إلى أهمية تعظيم وتوقير وتعزير رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا : { فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
فالمعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمرة المفلحين - بإذن الله جل وعلا - والتعزير كلمةٌ معناها التعظيم والنصر والتوقير - كما جاء في معجم مقاييس اللغة أصلٌ يدلّ على ثقلٍ في الشيء - فإذا قلت إنك توقّر فلاناً ، فمعنى ذلك أنه ذا ثقلٍ وذا مكانةٍ ومنه الوقار وهو الحلم والرزانة التي تدل على رزانة الإنسان ، وعدم خفته وطيشه ووقرت الرجل إذا عظمته ، ومنه قوله جل وعلا : { وتعزروه وتوقروه }، كما أسلفنا .
والتوقير أيضاً بمعنى التبجيل والتعظيم ، قال ابن جرير في تفسيره : " فأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم " .
وقال ابن تيميه رحمه الله : " التوقير اسمٌ جامعٌ لكل ما فيه سكينةٌ وطمأنينةٌ من الإجلال والإكرام ، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه من كل ما يخرجه عن حد الوقار " .
ولذلك تأتي هذه الكلمات كلها بمعنى مترادف .
إن الحديث عن عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ لا يمكن الإحاطة به ، كما لا يمكن أن يجمع ماء البحر في كأس فإن جوانب عظمته ووجوه رفعة قدره وصور علو مكانته أكثر وأعظم وأشهر وأوسع من أن يحيط بها حديثٌ في مثل هذا المقام ، بل قد صنّف العلماء ودوّنوا ، وتوّسعوا وجمعوا وأوعوا .. وما جاء ما فعلوه كذلك على ما كان ، وما ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولذلك عندما تركت هذا الموضوع وجدت أنه لا بد لنا أن نقتصر ونختصر منه ما لعله يفي بهذا المقام ، ويتناسب مع هذا الوقت ؛ ومن هنا أردت أولاً أن نبدأ بشيءٍ يتعلق بالمعنى والدلالة ، وبالفائدة والأثر ، فهذا الذي أوجزناه من المعنى مقصودنا به بيان الكلام الذي يأتي عن هذه العظمة ووجوهها .
ثم إن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين اثنين أساسيين سنقسم الحديث عنهما لا حقا :
أولاً : عظمة ذاتية في ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام ، وما كان له من الخصائص ، وما عرف به من الشمائل ، وما سجّلته سيرته من المواقف ، وما سمت به شخصيته في كل الجوانب الحياة المختلفة .
وجانبٌ آخر - وهو في تصوري أعظم وأكبر - وهو : جانب عظمة الإنجاز
ما الثمرة قد يكون لي خصيصة قد يكون لي شرف نسب قد يكون لي كثير علم قد يكون عندي بعض الذكاء والفطنة ، لكن ذلك وإن كان من وجوه العظمة لا يغني شيئاً ما لم يثمر ذلك كله نتيجةً وإنجازاً ، وفعله عليه الصلاة والسلام وأثره الباقي إلى قيام الساعة أعظم وجوه عظمته كما سنذكر .
أما فائدة هذه العظمة وحديثنا عنها ؛ فإني أقول : إنه يمكن لنا أن نذكر فائدتين اثنتين تكفينا لنجعل هذا الموضوع موضع اهتمامنا ورعايتنا .
المحبة والإجلال
فإنك لن تعرف شخصاً ، وتدرك عظمته ، وتعرف علمه ، وتلمّ بجوانب سماحته وخلقه وفضله إلا غُرسِت في قلبك محبته ، ومالت نفسك إليه .
ثانيهما : التأثر والاقتداء
فالنفوس بطبيعتها مجبولةٌ بالاقتداء والتأسي بالعظماء .. ألا ترى ملايين الناس من البشر ، لكنك في كل جيل ، وفي كل أمة ، وفي كل بلد ربما لا تجد إلا أعداداً قليلةً هي التي تذكر في الناس ، وتشتهر بينهم ، ويدور حديث الناس عنهم .. أولئك الذين يتصدرون الناس بما لهم من وجوه العظمة ، وما لهم من بصمات وآثار الإنجاز والتأثير والفائدة والنفع .. وحينئذٍ يكونون رواداً قواداً ، والناس على آثارهم مقتدون .. قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } .
وجوه عظمة النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً : العظمة الذاتية في رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد اقتصرت في كل جانبٍ من هذه الجوانب على عشرة وجوهٍ فحسب ، والعشرة وراءها عشراتٌ أخر ، ولها من النصوص والشواهد القرآنية والنبوية من الأدلة ما هو عشراتٌ وعشراتٌ أخرى .
الوجه الأول : أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل
فالله سبحانه وتعالى يقول : {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنون به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } .
وروى أهل التفسير عن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية بقولهما : " ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق : لئن بعث محمدٌ وهو حيٌ ليؤمنن به ، ولينصرنه ، و أمر الله النبي أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث فيهم محمداً - عليه الصلاة والسلام - وهو حيٌ وهم أحياء ليؤمنن به ، ولينصرنه .. " .
وهذا رفعةٌ وعظمةٌ بين الأنبياء وتعريفٌ وتشريفٌ بين البشرية جمعاء .. إذ هذه مكانة عظيمة ، والله جل وعلا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا في آخر الزمان ،وأنه خاتم الأنبياء .. فإذا جعل الميثاق على كل نبيٍ بعث أنه يُقرّ ويؤخذ عليه الميثاق إن بعث محمداً وهو حيٌ ، أو بعث في أمته بعد وفاته أن يأخذ العهد والميثاق على الإيمان بمحمدِ صلى الله عليه وسلم وعلى نصرته وأتباعه ؟!
أفلا ترون ذلك عظمةً بين العظماء وهم الرسل والأنبياء ؟ أفلا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودينه وكتابه والأعظم الأكمل ، الذي جعل الله عز وجل حكمته مستوفيةً لكل ما أراده من الهداية التامة والكمال في هذه الرسالة ، فجعل كل رسل الله وأنبياءه أخذ عليهم العهد ، وأمروا أن يأخذوا عليهم أتباعهم وعلى أممهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصروه .. ولا شك أن هذا وجهٌ ظاهرٌ واضحٌ بيّن .
الوجه الثاني : إعلام أهل الكتاب بصفته صلى الله عليه وسلم والتعريف به
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى على وجه الخصوص ، وفي رسالة موسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من التوراة ، وفي رسالة عيسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من الإنجيل ذكرٌ مفصلٌ بوصفٍ دقيقٍ وسماتٍ معنوية وأخرى حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن هذا النبي الذي سيبعثه الله من بعد هو نبيٌ عظيم ، ومكانته عالية ، وقدره رفيع ؛ ومن هنا ذكرت هذه الأوصاف ، كما قال جل وعلا : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ما يعرفون أبناءهم } ، ما معنى كما يعرفون أبناءهم ؟ أي كما لا يشك الرجل أن هذا الابن من صلبه ، لعلمه بحاله وحال زوجه ، بل قد لا يكون عنده من الجزم بهذا مثل ما عنده من الجزم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما ذكر من أوصافه الدقيقة في هذه الكتب .
والله جل وعلا قد قال : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } ، التوراة ليست كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل الإنجيل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا كن ذكره فيهما مشعٌ وصفته فيهما ظاهرةٌ فقد روى عبد الله بن عمر بن العاص الحديث الذي يرويه البخاري حين سئل عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أجل والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن :
" يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، و(أحمد) اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخَمالة، وأُسمّي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العَيْلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً ".
ذلك مما هو في الكتب السابقة من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا شك أن ذلك تنويهٌ وإشادةٌ به وتشريفٌ وتكريمٌ له صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثالث : ختم النبوات بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم
قال تعالى : { ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .. ودائماً ماذا نقول في حديثنا المعتاد ؟ ألا نقول : " ختامه مسك " ؟! أليس آخر عملٍ تعمله يكون أكثر اتقاناً وأوضح كمالاً ؟!
ولذلك من وجوه الحكم الجميلة استطراداً أقول ما ذكره ابن القيم رحمه الله في خلق آدم قال : " جعل الله خلق آدم وهو أبو البشر متأخراً عن خلق كثيرٍ من المخلوقات من الملائكة والجن وغيرهم ، ولا يكون المؤخر إلا معظماً - وذكر وجوه العظمة في خلق آدم - ورسولنا صلى الله عليه وسلم والأنبياء صفوة الخلق ، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، ومع ذلك هذه الصفوة لا شك أن يكون خاتمها وصفوة الصفوة عليه الصلاة و السلام ، ونحن نعلم أن الأخير هو الأكمل ، وأن الخاتم هو الأفضل ؛ فكانت نبوته ، وكانت شخصيته ، وكانت عظمته أتم وأكمل شيءٍ في سلسلةٍ ذهبيةٍ مشعةٍ مضيئةٍ من رسل الله وأنبياءه عليهم صلوات الله وسلامهم أجمعين " .
وإن كان سيدنا صلى الله عليه وسلم بتواضعه يقول : ( لا تفضلوني على الأنبياء ) ، ويقول : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) ، لكنه قال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) .
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون لـه، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ) ، وهذا من وجوه العظمة .
الوجه الرابع : عموم رسالة صلى الله عليه وسلم
عندما يكون هناك إنسان له قدرات معينة مثلاً مدرس متخصص في علوم التاريخ ماذا يدرس ؟ يدرس مادة التاريخ ، لكن لو قيل لك إن مدرساً معيناً جعلوه يدرس التاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ونحو ذلك ، وقالوا لك : إنه جيد ! ماذا ستقول عنه ؟ ستقول إنه رجلٌ عظيم لأنه استطاع أن يفعل هذا كله ، أو يستطيع أن يقوم بمهماتٍ عديدة لا يقوم بها إلا أشخاصٌ كثر ..
والله جل وعلا يقول في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته ، قال تعالى : { وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيرا } ، { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين }
بعثه الله إلى الثقلين من الإنس والجن منذ بعثته وإلى قيام الساعة .. كل البشر منذ بعثته إلى قيام الساعة هم من أهل أمة الدعوة التي توجه إليها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعون إلى الإسلام وإلى القرآن ، وإلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
في حديث جابر بن عبد الله المشهور قال عليه الصلاة والسلام : (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي: كان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا أو مسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة ) .
إذاً لن تكون هذه المهمة الواسعة لكل الناس ، وليست لقومٍ معينين ، ولا لوقعة معينة إلا لمن له عظمةٌ تتناسب مع هذه المهمة الكبيرة التي لا تحدها الجغرافيا ، ولا يقطعها الزمن ، ولا تتعلق ببيئةٍ ، ولا بلغةٍ ولا بثقافةٍ ؛ بل رسالةٌ شاملةٌ عامةٌ أنيطت بخير الخلق صلى الله عليه وسلم وهو لها أهلٌ ، ولعظمتها كان هو كذلك عظيماً كعظمة ما أسنده الله عز وجل إليه ، وما كلفه به وابتعثه لأجله في هذه البشرية .
الوجه الخامس : الأقسام الربانية المتعلقة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم
وهذه وجوه عظمةٍ لم تكن لأحدٍ من الخلق إلا له عليه الصلاة والسلام .. أقسم الله بحياته فقال جل وعلا : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمون } .
قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : " ما حلف الله تعالى بحياة أحدٍ إلا بحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم " ، ثم ذكر هذه الآية . رواه البيهقي عن ابن أبي شيبة .
وكلنا ندرس في التفسير : { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها } فهذا قسمٌ ، والله عز وجل له شاء أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، ولا شك أن هذا القسم لفت نظرٍ إلى تعظيم هذه المخلوقات التي قسم الله بها .. فكيف وهو يقسم بحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إن ذلك دلالة تعظيمٍ لهذه الحياة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام .
وأقسم الله عز وجل ببلده قال سبحانه وتعالى : { لا أقسم بهذا البلد * وأنت حلٌ بهذا البلد } .
وأقسم الله سبحانه وتعالى له - أي للأمور المتعلقة به - كما في قوله : { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } .
هذا القسم كان لنفي القطيعة التي زعمتها قريش عندما فتر الوحي قليلاً في أول ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام .
وأيضاً قوله تعالى : { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى } .
الأمر أيضاً بعد القسم متعلقٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلك وجوه عظمةٍ لا تخفى ولا تحتاج إلى تعليق .
الوجه السادس : رفع ذكره وتقدير جسمه صلى الله عليه وسلم
والله جل وعلا قال : { ورفعنا لك ذكرك } ، قال القاضي عياض في [ الشفاء في حقوق المصطفى ] كلامً نفيساً جميلاً ، معناه : " أي فلا يذكر الله جل وعلا إلا وتذكر معه " ؛ فنحن إذا جئنا لندخل في الإسلام أو لنذكر الشهادة قلنا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله هذا ذكر ليس فيه مقارنه محمد عليه السلام عبد الله ورسوله ، لكن إذا ذكرنا توحيد الله وإخلاص العبادة ذكرنا نبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم إذا جئنا في الصلاة نصلي فنذكر الله ، ثم نصلي بالصلاة الإبراهيمية فنذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تكاد تجد ذكراً إلا وفيه ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فلا يمر بك - أيها المسلم - يومٌ إلا وأنت تذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام .. في الأذان تذكره ، في الصلاة تذكره ، في كثيرٍ من الأذكار تذكره .. كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم صليت عليه مع من يصلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام .. فذكره مما لا يكاد ينقطع منه المسلم بحالٍ من الأحوال ، وهذا من عظمة ما أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم .
والتقديم لاسمه إذا ذكر الأنبياء - كما هو في القرآن - فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام مذكورٌ في مقدمتهم ، كما في قوله جل وعلا : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب .. } إلى آخر الآية .
وكذلك : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى .. }
هؤلاء الذين هم أولو العزم من الرسل ذكر في مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
سابعاً : التكفّل الرباني بالحفظ المتعلق به
وقد جاء الحفظ له ، وجاء الحفظ لكتابه ، ولسنته صلى الله عليه وسلم ..
أما الحفظ له - عليه الصلاة والسلام - فقد قال جل وعلا : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } .
كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يحرسه حرسٌ من الصحابة ، يتناوبون حراسته ليلاً ونهاراً ؛ خوفاً عليه من الأعداء ، فلما نزلت هذه الآية رفع الحرس .
ومن لطائف ما ذكر من محبة وتعظيم الصحابة - وإن كنت سأذكر ذلك لكن فيما خطر الذهن قد يكون أحياناً أولى - لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر ، وتزوّج صفية بنت حيي بن أخطب - زعيم اليهود الذي كان من ألدّ أعداء الإسلام وقتل - فلما بنى النبي عليه السلام بهذه الزوجة - من أمهات المؤمنين - كان في طريق عودته إلى المدينة ، وعملت له قبة فدخل عليها ، فلما أصبح الصبح نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا عند قبته أبو أيوب الأنصاري قائمٌ بسيفه ، قال : ما لك يا أبا أيوب ؟! قال : والله يا رسول الله خشيت عليك هذه المرأة ؛ قد قتلت أبوها وأخوها وقومها فخشيتها عليك يا رسول الله !
فنزلت هذه الآية : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } .
الرسول عليه السلام يأتيه وحي مسدد ، لكن الصحابة كانت قلوبهم معلقة به عليه الصلاة والسلام فخافوا عليه ذلك لذا نزلت هذه الآية ؛ فكانت عصمةً لرسول الله عليه الصلاة والسلام .
ثم كذلك نعلم جميعاً قول الله سبحانه وتعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون } .
وكلنا نعلم كذلك حفظ الله جل وعلا لكتابه : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ، وحفظ السنة التي تشرح القرآن تبعٌ لذلك ، وهذا لم يكن إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم ..
الرسل السابقين ؛ وخاصةً أهل الكتاب الله عز وجل قال : { والربانيون والأحبار بما استحفظوا عليه من كتاب الله } .
ما معنى ذلك ؟ الأحبار أوكل إليهم حفظ كتاب الله فما الذي جرى ؟
{ واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } .. أما كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وهو القرآن فقال : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
الوجه الثامن : ربط الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبطاعته ومبايعته لله رب العالمين
فإذا ذكر الإيمان بالله ذكر معه الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } .
وقوله : { آمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } .
وفي الطاعة قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } .
والمبايعة قول الله عز وجل : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } .
وهذا وجوه عظمةٍ واضحةٍ وبينة .
الوجه التاسع : التوقير الرباني في نداءه ومخاطبته صلى الله عليه وسلم
الرسل والأنبياء في القرآن ذكروا بالنداء بأسمائهم .. قال تعالى : { يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة } ، وقوله : { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات } ، وقوله : { يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } ..
هل تقرؤون في القرآن " يا محمد " ؟ أبداً !
{ يا أيها النبي .. } { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك .. } ، { يا أيها النبي قل لأزواجك .. } ، خطاب الله جل وعلا لرسوله كان فيه ذلك الوجه التعظيمي الذي فيه دلالةٌ على عظمة قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام .. فإذا كان الخطاب الرباني كلام رب العالمين - سبحانه وتعالى - يظهر فيه هذا التعظيم ، فأي تعظيمٍ أعظم من تعظيم الله سبحانه وتعالى ؟! وأي مكانةٍ ومنزلةٍ يمكن أن تستنبط بأكثر مما تستنبط من الآيات القرآنية التي تنزلت في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في نداءه ومخاطبته ؟!
الوجه العاشر والأخير في هذه الطائفة من وجوه العظمة : الإجابة والدفاع عنه صلى الله عليه وسلم
إذا قرأتم الآيات في شأن الرسل والأنبياء تجدون أقوال خصومهم والذين عارضوهم والملأ الذين خالفوهم ثم يأتي الرد على لسان النبي نفسه - على سبيل المثال - قال قومٌ : { إنا لنراك في ظلالٍ مبين * قال يا قومي ليس بي ضلالةٌ ولكني رسولٌ من رب العالمين } .
ولو قرأتم في سورة هود ، وفي سورة الأعراف قصص الأنبياء لرأيتم أقوال الكافرين والجاحدين والمناوئين ، وردود الرسل والأنبياء عليهم .. لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت الأقوال عنه ، والرد لم يأتي منه ، وإنما الردّ من الله عز وجل الذي ردّ عنه ، والذي أجاب عنه ، والذي دافع عنه هو الله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا : { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطانٍ رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكرٌ للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم } .
وكذلك في سورة الحاقة كما تقرأون كل الآيات .. فيها الرد والإجابة الربانية في آيات الله عز وجل إشارةً إلى رفعة ومكانة وقدر وعظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام .
وجوه العظمة المتعلقة بأمته والأمم الأخرى
نحن تكلمنا الآن في طائفةٍ متعلقةٍ بذاته عليه الصلاة والسلام مباشرةً ، أما الآن فالحديث عن عظمته المرتبطة بأمته والأمم الأخرى .
أولاً : كونه صلى الله عليه وسلم أولى بالأنبياء من أممهم
الله جل وعلا يقول : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } .
يقول الله عز وجل إن محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بإبراهيم من قومه ؛ حتى الذين آمنوا به ؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، وهو الذي أراد الله عز وجل أن يختم به هذه الرسالات ، وهو الذي آمن وجاءت رسالته بالإيمان بكل الرسل والأنبياء .
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح المتفق عليه : ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ) .
وتعرفون القصة لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة في هجرته ، ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فلما سأل عن ذلك ، قالوا : يومٌ نجّى الله فيه موسى ؛ فنحن نصومه لذلك .. ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟!
قال : ( أنا أحق بموسى منهم صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده ) .
و نحن المؤمنون أولى بالرسل والأنبياء ممن حرّف من أتباعهم ؛ لأننا نعلم أننا نؤمن بكل رسل الله ، ولا نفرق بين أحدٍ منهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعظّم رسل الله وأنبياءه ، ويقول : ( لا تفضلوني عليهم ) ، إجلالاً لهم واعترافاً بفضلهم وبياناً ؛ لأن سلسلة النبوة كلها سلسلة التوحيد ، وسلسلة الإسلام التي بعث الله بها الرسل جميعاً .
والوجه الثاني : كونه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم فهذه منزلةٌ عظيمة
أنت الآن قد تدّعي أحياناً أنك أولى ببنك من نفسه تقول لابنك : " أنا أولى من نفسك ؛ لأني كنت السبب في وجودك ؛ ولأني أرعاك ؛ ولأني أعرف أموراً أكثر منك ؛ ولأنني أسعى إلى الدفاع عنك ؛ كأنني قد فعلت لك ما يكون حقي عليك أكثر من حقك على نفسك .. " ، قد يتصور الناس هذا وإن كان لا أحد يقر بأن أحداً أولى بغيره من نفسه ، لكن الله عز وجل يقول : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } .
ويقول هو عليه الصلاة والسلام : ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) متفقٌ عليه .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ) .
اقرءوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } هو أولى بنا من أنفسنا ! من أين لنا الهداية ؟ ومن أين لنا معرفة الحق ؟ ومن أين لنا النور الذي نسير به في ظلمات هذه الحياة ؟ إنه مما أكرمنا الله به من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أين حياة قلوبنا ؟ أين زكاة نفوسنا ؟ أين رشد عقولنا ؟ أين استقامة أعمالنا ؟ أين صلاح أحوالنا ؟
مرجعه إلى ما أكرمنا الله به من الهداية التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهو أحق بنا من أنفسنا .
وقد ذكرنا في حديثنا عن المحبة : أنه ينبغي ويجب ويلزم أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبنا لأنفسنا التي بين جنبينا .
والوجه الثالث : منة الله - جل وعلا - ببعثته على العباد والخلائق
لأنه سبحانه وتعالى قال : { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين } .
الله يمنّ على البشرية أن بعث هذا الرسول الكريم ليستنقذها من الضلال إلى الهدى ؛ ليخرجها من الظلمات إلى النور ؛ ليمنّ الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة عليهم ؛ بما فيه نجاح أمرهم في دنياهم وفلاح أمرهم في أخراهم بإذنه سبحانه وتعالى .
والله جلّ وعلا يقول : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .
واستطراداً أقول : انظروا إلى الآيات التي جاءت في سياق القول الرباني ، تقدّم التزكية على التعليم ، والآيات التي جاءت في سياق القول البشري في قصة إبراهيم عليه السلام ، قال : { ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } ؛ لأن التزكية في المنهج الرباني هي أولى من العلم ، وهي الثمرة التي ينبغي أن يركّز عليها أهل العلم ؛ فإن العلم إذا لم يثمر طهارة قلبٍ ، وزكاة نفسٍ ، فليس بعلم يكون للإنسان ، بل قد يكون حجةً عليه .. نسأل الله عز وجل السلامة .
وأذكر هنا حديثاً لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – يقول لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شئ ، وجدت الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت منهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله قومه . فدخل عليه سعد بن عبادة ، فذكر له ذلك ؟ فقال :فأين أنت من ذلك يا سعد؟، قال: يا رسول الله ! ما أنا إلا من قومي . قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين ، فتركهم فدخلوا . وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا أتاه سعد فأخبره .
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ، ما مقالة بلغتني عنكم ؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً، فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي، قالوا : الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوني ، يا معشر الأنصار؟ . قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ ولله ولرسوله المن والفضل . قال : أما والله ، لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . أوجدتم علي يا معشر الأنصار! في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار : أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ! لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار . ولو سلك الناس شعباً ووادياً، وسلكت الأنصار شعباً ووادياً، لسلكت شعب الأنصار وواديها . الأنصار شعار ، والناس دثار اللهم أرحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار. قال : فبكى القوم ، حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
وهذا من بيان وجه منّه الله عز وجل على الخلق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف كانت منته ظاهرةً في قوله بأصحابه رضوان الله عليهم ، ومنته من بعض أعظم على من جاء بعدهم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام .
الوجه الرابع : كونه عليه الصلاة والسلام أكثر الأنبياء أتباعاً من الأمم والخلق
وهذا ظاهرٌ في أحاديث كثيرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام منها حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم قال عليه الصلاة والسلام : ( ما من الأنبياء نبيٌ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) .
وفي حديث أنسٍ أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ) رواه مسلم .
وفي حديثٍ آخر لأنسٍ قال : (لم يصدق نبياً من الأنبياء ما صدقت وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجلٌ واحد ) رواه مسلم .
وهذا لا شك أنه من وجوه العظمة والإكرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحديث أيضاً مشهور من رواية ابن عباس : (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ) متفقٌ عليه .
الوجه الخامس : كونه رحمةً للعالمين رحمةً للعالمين
ليس للبشر وللإنس بل وللجن ، وليس للبشر والجن وإنما للبهائم ، كما قال عليه الصلاة والسلام في شأنٍ أن الحيتان في جوف البحر لتستغفر لمعلم الناس الخير ؛ لأن أثر ذلك ينتفع به كل الخلائق .
اليوم يقولون لك مثلاً : الحفاظ على البيئة وتلوث الهواء .. وغير ذلك من الأمور التي يراعون فيها الحقوق والمصالح ، التي تتعلق بحياة البشر .. ولو ذهبت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هديه إلى أقواله ، إلى أفعاله لوجدت ذلك ظاهراً فيها بما هو أعظم ومما هو من أسبق من كل ما يقال ، والله عز وجل قال : { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين } .
وقد قال عليه الصلاة والسلام ، فيما رواه الحاكم في مستدركه وصححه ، والطبراني والبزار كذلك عن حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام : ( يا أيها الناس إنما أنا رحمةٌ مهداة ) .
وفي حديث أبي موسى قال : ( إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمةٍ من عباده قيض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها ) .
الوجه السادس :كونه أماناً وأمنهً لأمته
وذلك ظاهرٌ في قوله عز وجل : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ..
رسلاً وأنبياء أُهلِك أقوامهم في وجودهم ، وفيهم ذوو قرابتهم ، وفيهم من له به صلةً وهكذا .. لكن الله عز وجل جعل العذاب العام بعيداً عن أمته بسبب وجوده عليه الصلاة والسلام .
وفي حديثه قال عليه الصلاة والسلام : ( النجوم أمنةٌ للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) رواه مسلم .
أي ما يكون من فتنةٍ ومحنةٍ ، وبعدٍ عن دينٍ وابتلاءٍ يقدره الله عز وجل لحكمته .
الوجه السابع : ادخار دعوته صلى الله عليه وسلم لأمته في يوم القيامة
وهذا معروفٌ في الحديث المشهور من رواية أنس : ( لكل نبيٍ دعوة قد دعا بها فاستجيبت ، وجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ) فهذه خصيصهٌ وعظمةٌ لرسول الله عليه الصلاة والسلام لها أثرها على أمته .
الوجه الثامن : شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة
قال تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا } .
وكما قال جل وعلا : { فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } .
ومعلومة الآيات في هذا ، ثم شهادة الأمة كما قال جل وعلا : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً }
مقامٌ عظيم أن يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على البشرية كلها ، وعلى الأمم واتباعهم الأنبياء أو مخالفته لهم .
الوجه التاسع : شفاعته الأمم كلها عامةً ولأمته خاصة
في يوم الفزع يأتي الناس إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فيأتي ويسجد بين يدي الله عز وجل ، ويفتح الله عليه بمحامدٍ لم يفتح عليها من قبل ، فيقال له : ارفع رأسك ، واشفع تشفّع ، وسل تعطى ، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق ، فيقضي الله عز وجل بينهم .
كل الخليقة والبشرية من أولها إلى آخرها يشفع لها محمدٌ صلى الله عليه وسلم في اليوم الأعظم ن والكرب الأسمى والأضخم ، في يوم القيامة ليقضي الله عز وجل بين الخلائق .
وأعطي أيضاً عليه الصلاة والسلام أنواعاً كثيرةً من وجوه الشفاعة لأمته في أحاديث الشفاعة الطويلة ولا يسمح المقام بذكر ذلك .
وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند مسلم : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافعٍ ، وأول مشفعٍ ) .
الوجه العاشر : خيرية أمته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين
من أثر كل هذا التعظيم لرسول الله انعكس الأثر على أمته ، قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا } ، { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( بعثت من خير قرنٍ من بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن التي كنت فيه ) .
وتعرفون قوله : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) وهكذا .. هذه وجوهٌ أخرى من وجوه العظمة .
وجوهٌ خاصةٌ بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة
كل ما ذكرناه متعلق بالدنيا ، لكن العظمة في يوم القيامة ، في الحمد وفي غير الشفاعة العامة بين الخلق ، وفي أمورٍ أخرى : أول من يفتح باب الجنة ، وأول من يدخل الجنة .. نصوصٌ كثيرة ، وخصائص وعظمةٌ خاصة بذلك ترجعون إليها وتطالعونها .
عظمةٌ ذاتية وعظمةٌ انجازية
عظمة الانجاز في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أتناولها من وجهين :
أولاً : العظمة في سمو الدعوة
سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام منذ أن نزل قوله جل وعلا : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم تلا ذلك : { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر } إلى قوله جل وعلا : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } .
قام النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجلس ، وتحرك فلم يسكن ، ونطق فلم يسكت ، وجاهد فلم يداهم .. كانت حياته من أولها إلى آخرها دعوة ، وحمل أمانة الله ، وبلغ رسالة الله ، وأدّى أداءً عظيماً ، هو أجلى ما يكون في صورة الآية القرآنية ، التي تأتي في الكلام على الرسل والأنبياء ، وما على الرسل إلا البلاغ المبين .
ثم إذا رأينا سمو الدعوة في جانبٍ آخر غير الجهد والجهاد ، والبذل والتضحية ، لأن نوحاً عليه السلام مضرب مثلٍ ، قال تعالى : { ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً } أليس كذلك ؟!
لكن كل الابتلاء الذي مر بالرسل والأنبياء وكل الجهد الذي بذله الرسل والأنبياء وجد في سيرة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ما هو جامعٌ لكل ما تفرق من دعوة .. إصرارٍ وإعلان ، ومن دعوة ملأ ، ودعوة خواص ، ومن موافقون ومخالفون ، ومن ابتلاءٍ بالهجرة ، أو ابتلاء بالقتال ، أو ابتلاءٍ بالكيد ، أو ابتلاءٍ بالاستهزاء ، أو ابتلاءٍ بالإغواء ، أو ابتلاءٍ بالإغراء .. كل ما تفرّق في سير الأنبياء جمع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان كما نعلم على ذلك القدر العظيم في دعوته عليه الصلاة والسلام .
وجهٌ ثالث : سموه في دعوته على حظوظ نفسه صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي سبى قلوب الناس ، وخطف أبصارهم ، وأمالَ نفوسهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والأحداث في سيرته كثيرةٌ جداً ..
أذكر على وجه السرعة : الرجل الذي جاء ، والنبي عليه السلام نائمٌ تحت ظل شجرةٍ ، وأخذ السيف وقال : ما يمنعك مني يا محمد ؟! فقال عليه الصلاة والسلام : الله ، فارتعد الرجل ، وارتعدت فرائضه ، وسقط سيفه من يده ، فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك مني ؟! قال : كن خير آخذٍ ، فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم .
وموقف آخر لعمير بن وهبٍ رضي الله عنه ، لما جاء - بعد أن اتفق مع صفوان بعد بدر - يدّعي أنه يطلب أسيراً له ، وهو يريد أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما أخبره النبي بحاله - وعمر يستأذن يقول : دعني أضرب عنقه - أسلم ، فقال : خذوا أخاكم فعلموه دينه .
ثمامه بن أثال ، الذي جاء وتمكّن النبي صلى الله عليه وسلم منه - هو سيد بني حنيفة - فربطه النبي صلى الله عليه وسلم في ساريةٍ في المسجد ، ثم يأتيه يقول : ما لك يا ثمامة ؟! يقول : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تطلب الفداء يأتك المال ، وليس عنده شيء من ذلك ، فيطلقه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام ، أطلقه وجعل له حرية ، وكانوا يكرمونه في أسره .. فماذا صنع ؟ خرج فاغتسل ورجع ، وقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله " ، ثم منع قريشاً أن تأتيهم حبةٌ من حنطةٍ ؛ حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن بلاده هي التي كانت تزودهم بذلك .
وانظر أيضاً إلى مسائل أخرى في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، في إيثاره للحق ، وفي تأليفه للقلوب على دعوته عليه الصلاة والسلام ، وذلك سموٌ عظيم في وجوهٍ كثيرةٍ ، يضيق المقام عن حصرها ، وهي حريةٌ بأن يكون لها أحاديث أخرى ؛ لأن مجالها ليس مجال نصٍ أو نصوصٍ كما أسلفنا في الوجوه السابقة ، لكنه مجال سردٍ لمواقف كثيرة .. حسبكم كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ! كيف ردّ أهل الطائف عندما ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ردوا عليه بأقبح ردٍ ، وأغروا به سفهائهم وغلمانهم يرمونه بالأحجار ؛ حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام !
انظروا كيف كان الأمر في شأن ما كان من يوم أحد ، لما دمي وجهه الشريف ، ودخلت حلقتا المغفّر في وجنتيه ، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام ، ثم هاهو يقول : ( اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون ) .
ويوم جاءه ملك الجبال فقال : أطبق عليهم الأخشبين ؟! قال : ( لا لعلّ الله يخرج من أصلابهم من يوحّد الله ورسوله ) .
كان كل شيءٍ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع كل خفقة قلبٍ ، ومع كل دفقة دمٍ في عروقه ، كل ذلك دعوته ورسالته ودينه الذي كان هو أوكد همّه ، وأعظم شغله هو الذي في كل حركةٍ وسكنهٍ ، في كل لفظة وسكونٍ ..
كان كل همه تلك الدعوة كيف يغرسها في القلوب !
الموقف الأخير : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جارٍ يهودي له ، وابنه غلامٌ في مرض الموت - والقصة معروفة - وسلم وهو لم يسلم ، وهذا ابنه في مرض الموت ، عاده النبي صلى الله عليه وسلم وزاره فماذا قال له ؟ قال له : أسلم - قل لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله ؛ حتى تنجو من النار - فنظر الغلام إلى أبيه ، فقال له : أطع أبا القاسم - شخصيه عظيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى هؤلاء الذين لم يؤمنوا كانوا يرون عظمته – قال : أطع أبا القاسم ؟ فقال الغلام : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وخرج ، ثم لم يلبث أن مات ، فقال عليه الصلاة والسلام : الحمد لله الذي نجاه من النار .
انظروا إلى فرحه ! يفرح بهداية الناس ..
نحن اليوم إذا رأينا مخطئاً ، دعينا عليه بالويل والثبور وعظائم الأمور ، واكفهرت وجوهنا في وجهه ، وأصبحنا عونٌ للشيطان عليه ! وأما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفتح صدره وقلبه .
الغلام الشاب كما في حديث مستند أحمد ، لما جاء يقول للرسول صلى اله عليه وسلم : ائذن لي بالزنا - أسلم ولكنه كان يريد أن يمارس هذه الشهوة ، وتعرفون قوتها وتمكنها من النفس - فهل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أغرب عن وجهي !!
لو جاءنا أحد اليوم يسألني أو يسأل أحد تقول له على أقل تقدير : " ألا تستحي ؟! كيف تقول لي مثل هذا الكلام ؟! " لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : أترضاه لأمك ؟ أترضاه لأختك ؟ فكان يقول : لا ، فقال : والناس لا يرضونه ، ثم وضع يده الشريفة على صدره ودعا له ، قال : فما كان شيءٌ أبغض عليّ من الزنا .
انظر إلى هذا السمو العظيم الذي كان في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا من وجوه العظمة أكثر ربما من وجوه العظمة التي ذكرناها .
والوجه الثاني : سمو التربية الرجال الذين أخرجهم محمد صلى الله عليه وسلم
عمر رضي الله عنه ماذا كان يقول ؟ قال : كنا نعبد أصناماً أحياناً من تمر ، فإذا جعنا أكلناها !
ماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ؟ من هو أبو بكر ؟ من هو عمر ؟ من هؤلاء الناس ؟ عرب لا يعرف أحد لهم شيء ولا ذكر .. عندهم من الخصال الذميمة ، وعندهم من الأحوال البغيضة ، وعندهم من الجاهلية المستحكمة ما هو عظيمٌ جداً ، لا يكاد ينفع فيه شيءٌ من هذا الذي يمكن أن نقول !
اسمعوا لقول عتاب بن أسيد رضي الله عنه - وقد ولي أمر مكة – يقول : كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والله ما لنا طعامٌ إلا ورق الشجر في أيام الحصار ، وما منا اليوم إلا أميرٌ على مصرٍ من الأمصار !
لقد خرّج الرسول صلى الله عليه وسلم قادة عظاماً ، خرّج حزم وقيادة أبي بكر ، وخرّج عدالة عمر ، وخرّج حياء عثمان ، وخرّج شجاعة علي ..
وكان أعظم وجوه عظمته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعرف الرجال ، فقال لعمر : ( لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر )
وقال في وصف أصحابه : ( أرحمهم أبا بكر ، وأصدقهم لهجةً عمر ، وأشدهم حياء عثمان ، وأشجعهم علي ، وأقرأهم أُبي ، وأفرضهم زيد ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل .. )
كان يعرف كل الرجال ، كان يعرف كيف يدخل إلى القلوب .. كيف يغير العوائد .. كيف يغير حتى أخرج لنا هذه الكوكبة العظيمة ، التي لن يكون لها مثيل في جملتها في وقتٍ واحدٍ وزمنٍ واحدٍ أبداً .
في التاريخ قد يكون آحاد من الناس لهم مراتب ، أو ربما مناقب ، أو ربما عبادات أو إيمانيات أو أعمال صالحة أو نحو ذلك تقرب من بعض الصحابة ، لكن لم يكون هناك جيل تجتمع فيه من الخصائص والصفات وخير والعمل مثلما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم .
نحن اليوم إذا جاء أب وربى أبناءه ، وكانوا علماء ، وكانوا صالحين ، وكانوا ذوو أخلاقٍ حسنة .. ماذا يقول الناس عنه ؟
يقولون : فلان يكفيه هذا الابن من أبناءه ، خلّفه وجعله في هذا الوضع أو في هذا الحال .. فكيف بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ؟
كما قال شوقي :
يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه
أي عظمةٍ من عظمة تخريج الرجال وصناعة الرجال ، وليس هناك أحدٌ صنع مثلما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام في مثل هذا .
من أعظم وجوه العظمة هو ما أخرجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه البشرية من أعيان أصحابه رضوان الله عليهم وما كانوا عليه من إيمانٍ وتقوى وهدي وصلاح ، وما كانوا عليه من قوةٍ وحسن عملٍ ؛ حتى شرقوا في الأرض وغربوا ، وفتحوا القلوب والبلاد ، وأصلحوا العباد ، وكان خيرهم رضوان الله عليهم ..
أساسٌ ما زلنا إلى يوم الناس هذا نتفيأ ظلاله ، وننتفع بما كان مما صنعوه خدمةً لدينهم ، وتبليغاً لدعوتهم ، واتباعاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك استمساكاً بكتاب ربهم سبحانه وتعالى .
وهذا بابٌ واسعٌ ، وهو حريٌ وجديرٌ أن يكون لافتاً للنظر ؛ بل إن بعض غير المسلمين وخاصةً من المعاصرين المستشرقين كان أكثر ما يذكرونه في وجوه عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه استطاع أن يحول أمةً عابثةً لاهيةً قاصرة ، ليس عندها إلا الحروب فيما بينها ، وليس عندها طموحاتٌ ولا آمال .. ثم حولها إلى أمةٍ ملكت ثلثي المعمورة التي كانت معروفة في ذلك الوقت ، في زمنٍ وجيزٍ من عمر الزمان ..
حتى جاء عقبة بن نافع بعد دهرٍ طويل وهو يخاطب البحر ويقول : " لو أني أعلم أني وراءك أرضٌ لخضتك في سبيل الله عز وجل " .
وحتى بر الأمير المسلم بقسمه ، وجاءوا له بترابٍ من الصين ليطأ عليه بقدمه إبراراً لقسمه ؛ وحتى وقفت جيوش المسلمين على أبواب النمسا في القرون القريبة الماضية ، ودخلوا في عهد عبد الرحمن الغافقي التابع إلى جنوب فرنسا ..
المسلمون الرجال العظام الذين خرجتهم مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنجبهم الصحابة رضوان الله عليهم هم أعظم ثروةٍ ، وأعظم دليلٍ على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام .
ننتقل إلى بعض التوجيهات المباشرة لنا في كيفية تحقيق تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم
جاءتنا آيات توجهنا :
أولها : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } .
بعض الناس يقول محمد بن عبد الله كأنه يتحدث عن محمد هذا ابنٍ من أبناءه ، أو صديق من أصدقاءه .. لا ينبغي ذلك لا يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا بذكر نبوته ورسالته ، إلا بذكر ما ينبغي له من التوقير والتعزير والتعظيم والتبجيل ، وذكر فضله عليه الصلاة والسلام .
قال الطبري في تفسيره في هذه الآية : " نهيٌ من الله أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظٍ وجفاءٍ ، وأمرٌ لهم أن يدعوه بلينٍ وتواضع ، أمرهم أن يدعوه ولا يقولوا : يا محمد " . كما جاء عن بعض الأعراب ، عندما جاءوا إلى النبي