بسم الله الرحمن الرحيم
شروط استلهام القرآن الكريم والاقتباس منه
لأنَّ القرآن نزل باللفظ والمعنى، ولأنَّه مُعْجِزٌ بنصِّه وبيانه؛ فيترتَّب على ذلك مراعاة كلِّ الوسائل والأساليب التي تؤدِّي إلى المحافظة عليه، وحمايته من أيِّ تحريفٍ أو تبديلٍ أوْ خطأٍ في الفَهْم والتَّأْويل.
ومن ذلك: الالتزام بمعنى اللفظ القرآني حسَب السياق الذي وَرَدَ فيه؛ فلا نعزله عن سياقه ونلتمس له دلالات ومعانيَ أخرى يتَّسع لها إذا كان مفردًا مستقلاًّ، وإنما يتحتَّم إذا اقتبسنا أحدَ ألفاظ الكتاب العزيز أن نحافظ على دلالة المناسبة لموضعه من الآية والسورة، وأن نُورِدَه في موقف مُشابه وموافق لتلك الدلالة.
ومن هنا كان على الناقد الدَّارس أن يبيِّن مدى مخالفة الشاعر أحيانًا للمعنى القرآني عندما يكون قد اقتبس لفظًا أو عبارةً قرآنيةً.
ولا يصحُّ قَبول أو استساغة تَأْويل وتفسير يُعارض القرآن؛ "ذلك أنَّ المبدأ أو الحُكْم أو الرأي الذي تؤيِّده آياتُ القرآن يحظى على الفور بصفة استحقاق القَبول من جماهير المسلمين، كما أنَّ الرأي الذي تُعارضه آيات القرآن مكانُه هو الرَّفض المطلَق من جماهير المسلمين وعلمائهم، أما الرأي الذي يعجز أصحابه عن تأييده بأيَّة آيةٍ من آيات القرآن؛ فإنَّ في عجزهم دلالةً أكيدة على بُعْد هذا الرأي عن رُوح الإسلام ومقرَّراته"[1].
وتتنوَّع الأشكال التي يمكن أن يفيد فيها الشاعر بنصوص الكتاب العزيز؛ فهو قد يُورِد كلمة أو عبارة بنصِّها خلال شِعره، وذلك ما يُعرف بـ"الاقتباس" أو "التَّضْمين"، وتحدَّثتْ عنه البلاغة العربية القديمة، وأوردتْ له نماذجَ كثيرةً من الشِّعر العربي، كما تحدَّث عنه المفسِّرون والدَّارسون للقرآن الكريم، ومن ذلك قول السُّيوطي في "الإتقان": "هو تضمينُ الشِّعر أو النَّثر بعضَ القرآن، لا على أنَّه منه، بألاَّ يُقال فيه: قال تعالى ونحوه، فإنَّ ذلك حينئذٍ لا يكون اقتباسًا"[2].
كما أجازه الشيخ عزُّ الدين بن عبدالسلام في النَّثر فقط، مستدِلاًّ على ذلك بما وَرَد من أدعيةٍ عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعن أبي بكرٍ، تتضمَّن آياتٍ من القرآن، ولكنَّه منع ذلك في الشِّعر، على أننا نرى جَوازَه في الشِّعر؛ فإنَّ دواوين حسَّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رَواحَة، وغيرهم من صحابة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتابعين - اقتبسوا كلماتٍ وعباراتٍ قرآنيةً في أشعارهم، ولم ينكرها عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وللشيخ تاج الدين السُّبْكي رأيٌ أوْرَدَه في "طبقاته"، معقِّبًا على بيتَيْن لأحد كبار الشَّافعية، هما:
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللهِ فِي آيَاتِهِ [إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ]
يقول الشيخ السُّبْكي معلِّقًا: "هذا الاقتباس في شِعره له فائدةٌ؛ فإنَّه جليلُ القَدْر، والناس يَنْهَوْنَ عن هذا، وربما أدَّى بحثُ بعضهم إلى أنَّه لا يجوز، وقيل: إنَّ ذلك إنما يفعله الشُّعراء الذين هم في كلِّ وادٍ يهيمون، ويَثِبُون على الألفاظ وَثْبَةَ مَنْ لا يُبالي، وهذا هو الأستاذ أبو منصور من أئمة الدِّين، وقد فعل هذا"[3]!!
وبعد أن يُورِد السُّيوطي في "الإتقان" عددًا من الأبيات التي تَقْتَبِسُ كلماتٍ قرآنيةً، يُعقِّب قائلاً: "الكلمة من القرآن الكريم أو الآية، يقتبسها المقتبِس في كلامه، مهما بلغ هذا الكلام من الفصاحة والبلاغة؛ فتُضفي على الكلام نورًا وبهاءً وروعةً وفخامةً، وتكون متميِّزةً عمَّا قبلها وما بعدها تميُّزَ الدُّرَّة اليتيمة الثمينة بين حبَّات العِقْد"[4].
وقد ظهرت في العصر الحديث أشكال متنوعة يمكن أن نُطلق عليها عامَّةً (استلهامًا) أو استفادةً من إحدى قصص القرآن المجيد، فيوظّف مغزى القصة في التعبير عن وِجهة نظره تجاه أحداث معاصرة.
وأحيانا يكتفي الشاعر بموقفٍ واحد من القصة، يرى فيه تصويرًا لموقف عصري أراد أن يحكيَ عنه.
وربما لجأ الشاعر إلى إحدى الشخصيات القرآنية، فاستعار ملامحها وسماتها لتجسيد شخصية حديثة.
وقد تظهر أشكالٌ أخرى للاستلهام مع الدراسة التطبيقية لدى الشعراء المحدَثين.
ومن الواجب على الشاعر في كل الحالات السابقة وما يَجِدُّ من أمثالها ونظائرها أن يلتزم بالشروط التي أشرنا إليها، وأن يضع في اعتباره دائمًا أنَّه يتعامل مع نصٍّ إلهيٍّ له قداسته ومكانته العالية، ويجب تنزيهه والسموُّ به عن أيِّ استعمال أو فَهْم تبدو عليه شُبْهَة الإساءة وعدم الإجلال والتَّنْزيه.
---------------------
[1] دراسات في التفسير، ص11.
[2] المدخل، ص 469 (عن الإتقان للسيوطي).
[3] المدخل، ص 471.
[4] السابق، ص 472( عن الإتقان، جـ1، ص 113/114).
دمتم برعاية الله
المصدر :
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/1517/121:50